في عام 1931، كان شاب إنجليزي في العشرين من عمره يقف داخل مطبخ فاخر في فندق “ماجستيك” في باريس. لم يكن يعمل طاهياً للضيوف، ولا يقدم أطباقًا فخمة لكبار الشخصيات، بل كان يطبخ طعامًا مخصّصًا… للكلاب التابعة لضيوف الفندق من الطبقة الثرية.
وبعد أيام قليلة فقط، تلقى ذلك الشاب تحديًا غريبًا: طُلب منه إعداد طبق “ضفادع” للرئيس الفرنسي أرمان فاليير (Armand Fallières) بنفسه.
أعدّ الطبق بإتقان، تناول الرئيس الطعام واستمتع به، لكن بعد أيام قليلة توفي الرئيس.
ظلّ الشاب يتذكّر هذا المشهد لسنوات طويلة، مردّدًا: “غالبًا أنا من طبخت آخر وجبة لرئيس فرنسا.”
ولكن المفاجأة أنّ هذا الشاب لم يُعرف في التاريخ كطاهٍ، ولا كبائع، ولا كباحث.
بل أصبح لاحقًا الرجل الذي يُلقّب عالميًا بـ: “أبو الإعلانات الحديثة.” إنه ديفيد أوجيلفي.
ديفيد أوجيلفي … طفولة ذكية… ودراسة متعثّرة
وُلد ديفيد أوجيلفي بذكاء لافت أهّله للحصول على منح دراسية في مدارس مرموقة مثل Fettes College ثم الالتحاق بـ Christ Church في جامعة أوكسفورد.
لكن ظروف أسرية قاسية، مع عدم قدرته على الالتزام بالمسار الدراسي، دفعته إلى ترك الجامعة دون الحصول على شهادة.
وهنا بدأت رحلته الغريبة، الممتلئة بوظائف لا يبدو بينها رابط منطقي:
طباخ في فندق باريس
مندوب مبيعات
باحث في مجال استطلاعات الرأي
مزارع
ثم محلل استخبارات
لينتهي به الأمر منشئًا واحدة من أهم وكالات الإعلانات في التاريخ.
من شاب يطرق الأبواب… إلى صاحب أفضل كتيّب مبيعات في العالم
بعد سنة من العمل في مطبخ الفندق، قرر أوجيلفي أن يترك حياة المطابخ ويعود إلى بريطانيا.
هناك حصل على وظيفة مندوب مبيعات لبوتاجاز فاخر يحمل اسم AGA Cooker، وكان واحدًا من أغلى الأفران في السوق البريطاني آنذاك.
كانت المهمة تبدو بسيطة على الورق، لكنها مرعبة في الواقع:
بيع فرن ضخم وغالٍ لعائلات بريطانية محافظة،
بدون إعلانات تلفزيونية،
ولا حملات صحفية،
ولا وسائل ترويج حديثة…
فقط من باب إلى باب.
كان أوجيلفي يقف لساعات طويلة في البرد، يطرق الأبواب ويشرح للأسر كيف يمكن لهذا البوتاجاز أن يغيّر حياتهم، ويوفّر الوقت والطاقة، ويجعل المطبخ مركز البيت.
وبشكل مفاجئ، أصبحت مبيعاته الأعلى في الشركة.
لدرجة أنّ الإدارة طلبت منه التوقف عن البيع مؤقتًا… كي يدرّب باقي المندوبين على أسلوبه.
لكن أوجيلفي لم يكتفِ بالتدريب.
بل كتب كتيبًا صغيرًا بعنوان:
“The Theory and Practice of Selling the AGA Cooker”
وبعد سنوات، وصفت مجلة Fortune هذا الكتيب بأنه:
“أفضل دليل مبيعات في العالم.”
كانت هذه اللحظة مفصلية في حياته؛ لأنها أثبتت أنّ سرّ نجاحه لم يكن في الكلام الجميل…
بل في فهم الناس، والحديث إليهم بطريقة تشبه الجلوس وجهًا لوجه.
من معهد جالوب… إلى عالم الاستخبارات
في عام 1938، أقنع وكالة إعلانات بريطانية بإرساله إلى الولايات المتحدة ليعمل مع “جورج جالوب” في معهد Gallup للأبحاث.
وفي نيوجيرسي، لم يتعلم فقط أساسيات الإعلانات، بل تعلّم علمًا أعمق:
كيف تسأل سؤالًا؟ وكيف تستنتج من إجابة بسيطة نجاح فيلم أو حملة إعلانية قبل إطلاقها؟
كان يحلّل أسباب النجاح والفشل في السينما الأمريكية، ويطوّر نماذج تتنبأ بنتائج الأفلام من مجرد بوستر أو فكرة أو اختيار فريق العمل.
وقد أثار ذلك غضب بعض نجوم هوليوود الذين لم يرق لهم أن يقيّم باحث “مستقبل أفلامهم”.
لكن بالنسبة لأوجيلفي، كان هذا درس العمر:
البحث العلمي يمكنه التنبؤ بالمستقبل… حتى وإن لم يعجب الحقيقة أصحابها.
خلال الحرب العالمية الثانية، عمل في السفارة البريطانية في واشنطن ضمن قسم المخابرات، حيث كتب تقارير عن “الحرب النفسية” واقترح استخدام منهج Gallup في توقع ردود الأفعال الشعبية تجاه الحملات الدعائية.
تم اعتماد تقريره لاحقًا في أوروبا خلال المراحل الأخيرة من الحرب.
بمعنى آخر، قبل أن يصبح “رجل الإعلانات”، كان:
باحث رأي عام
محلل نفسي للشعوب
وخبيرًا في تأثير الكلمات على العقل الجمعي
مزارع بين الأميش… وبداية البساطة التي صنعت مجده
بعد الحرب، ترك واشنطن وعاد إلى حياة بسيطة، حيث عاش بين مجتمع الأميش في بنسلفانيا كمزارع.
هذا المجتمع المتواضع، الذي يعيش دون كهرباء تقريبًا، أثّر على فلسفته الإعلانية لاحقًا.
فكانت إعلاناته مهما كانت فاخرة… تحمل روحًا إنسانية بسيطة، بعيدة عن المبالغات والتكلّف.
العودة إلى نيويورك… وتأسيس الوكالة الأسطورية
في عام 1948، وكان يبلغ 38 عامًا، قرر أنّ الوقت حان للعودة إلى شغفه الأساسي: البيع + البحث.
سافر إلى نيويورك، وبدعم من وكالة Mather & Crowther البريطانية، أسّس وكالته الخاصة:
Ogilvy, Benson & Mather
برأسمال متواضع يبلغ 6000 دولار فقط.
على حائط مكتبه الجديد، علّق قائمة تضم خمسة عملاء يعتبرهم الأفضل في أمريكا آنذاك، وكتب فوقها:
“هؤلاء هم العملاء الذين سنعمل معهم.”
بينما كان معظم الناس يبحثون عن “أي عميل”، كان أوجيلفي يختار من يريد، ويخطط للوصول إليهم.
أول الحملات… وأولى الضربات العبقرية
حملة Guinness عن المحار
إعلان بسيط مليء برسومات أنواع المحار، ورسائل تعليمية ممتعة.
حوّل هذا الإعلان العلامة التجارية إلى جزء من ثقافة الأكل الراقي.
حملة Schweppes
بدل اختيار عارض وسيم، قرر وضع رئيس الشركة نفسه في الإعلان، وهو رجل إنجليزي عجوز ذو مظهر غريب، ليجعله شخصية أيقونية.
حققت الحملة نجاحًا مذهلاً في أمريكا.
حملة قميص Hathaway

أوجيلفي وضع “رقعة عين” على موديل عادي… دون تفسير.
هذه اللمسة وحدها صنعت “أسطورة”، ورفعت مبيعات القميص بشكل هائل.
إعلان رولز رويس التاريخي
غاص في 20–30 تقريرًا هندسيًا ليبحث عن حقيقة واحدة تبيع السيارة.
وبناء على هذه الحقيقة كتب أحد أشهر الإعلانات في تاريخ السيارات، إعلانًا اعتبرته الشركة “نقطة تحول في تاريخ البراند.”
قوانين ديفيد أوجيلفي: الإعلان ليس مسابقة جمال
مع الوقت، صاغ أوجيلفي مجموعة من المبادئ التي أصبحت لاحقًا منهجًا معتمدًا في عالم الإعلانات:
ابحث بعمق قبل أن تكتب.
تعامل مع العميل باحترام—”العميل ليس أحمق، إنها زوجتك.”
العنوان هو 80% من الإعلان.
الصورة ليست للزينة، بل لخدمة الرسالة.
الإبداع بدون نتيجة لا قيمة له.
جمع خبراته في كتابه الشهير “Ogilvy on Advertising” الذي لا يزال أحد أهم المراجع في عالم التسويق.
من مكتب صغير… إلى إمبراطورية عالمية
تحولت الوكالة الصغيرة التي أسّسها في نيويورك إلى شبكة عالمية تضم أكثر من 100 مكتب في عشرات الدول.
وبعد سلسلة من الاندماجات، أصبح اسمها “Ogilvy & Mather”، ثم أصبحت جزءًا من مجموعة WPP العملاقة.
لكن الروح التي وضعها المؤسس بقيت حاضرة:
البحث، احترام المستهلك، والإبداع القائم على النتائج.
أمضى أوجيلفي سنواته الأخيرة في قصر بفرنسا، لكنه احتفظ بمكتب صغير وسط المزارع يكتب منه الرسائل، ويستقبل الشباب الراغبين في التعلم.
وعندما سُئل عن سر نجاحه، قال:
“بدأت حياتي باحثًا… وبقيت باحثًا طوال عمري.”
أوجيلفي بالنسبة لك أنت… ليس مجرد تاريخ
سواء كنت:
صانع محتوى
كاتب إعلانات
مسوّقًا محترفًا
أو مبتدئًا يبحث عن فرصة
فإن قصة ديفيد أوجيلفي تمنحك دروسًا عميقة:
لا تتسرّع في الكتابة قبل فهم العميل
راقب نتائجك لا إعجاباتك
احترم عقل الجمهور
قل الحقيقة، ولو كانت بسيطة
ادمج بين الإبداع والمنطق
ولا تخجل من البدء المتأخر
أوجيلفي نموذج حي على أن العمر لا يصنع النجاح… بل فهم البشر + احترامهم + الشجاعة في التجربة.
الخلاصة
قصة ديفيد أوجيلفي ليست مجرد حكاية عن رجل نجح في مجال الإعلانات، بل درس حياتي قوي يؤكّد أنّ الطريق قد يبدأ من مطبخ فندق، أو من وظيفة صغيرة، أو من فشل جامعي…
لكن ينتهي عند القمة إذا امتلكت الشغف، والبحث، واحترام الناس، والقدرة على السعي حتى النهاية.
إن أعجبتك القصة، شارك المقال، واكتب في التعليقات:
من تريد أن نتحدث عنه في المقال القادم من سلسلة #زعماء_التسويق؟
